منذ سنوات، سمحنا للمجازفة أن تشق طريقنا بعناية. وكان على الاعتباطية أيضاً، أن لا تنفك عن أقدام أي طموح يمني مشروع. غير أن العادة جرت مع كل مراحل اليأس التي مررنا بها، بأن لا نستسلم لأي عبث، ولا نُسّلم أمنياتنا للقدر ببساطة من لا يقوى على الابتكار والتجديد.
وأنا أعد لهذه المقالة مثلاً، أشعلت شمعتين؛ إحداهما مادية للإضاءة، والأخرى معنوية لإيضاح رؤيتي للمستقبل؛ وشمعة الأمل هذه طبعاً، من فرط ما بها من روح تفاؤلية بات من غير المعقول أن لا يبدو معها اليمن على موعد مع قدرٍ جديد؛ أكثر ابتسامة من أي قدرٍ مضى.
كأيٍ من أنشطة حياتنا اليومية المفعمة بالشطط، احتجت على مدى أسبوعين، لتجريب مختلف الوسائل والأساليب التي أصل معها إلى ابتسامة راجح بادي وهو يتسلم مني مقالاً وعدته بانجازه لأسبوعية "الصحوة"؛ إذ أن علاقة حميمة تبدو في طريقها إلى التماسك مجدداً، بين الآراء الشابة بمختلف توجهاتها ووسيلة إعلام الحزب الأكثر حضوراً وفعالية في الساحات.
لست بحاجة لتبرير وجودي المتفائل هنا لأول مرة. تماماً، مثلما علينا جميعاً أن نغظ الطرف عن هذا الائتلاف الذي ولدته الثورة المباركة، ونشرت عبقه المدني الراقي في كل الأرجاء. فليس غريباً مثلاً، أن يتصدر حسن عبد الوارث أخيرة "الصحوة" أو أن يتمايل فؤاد دحابة مع ألحان الأناشيد الوطنية. وليس مستهجناً أيضاً، أن تطبع الفتيات على خدودهن الموردة علم الوطن ويكتبن على راحة أياديهن الطاهرة، شعارات التغيير. ثم إن علينا أن نبارك وحسب، هذه الأهازيج الثورية المكتنزة بأصوات النساء، صيحات الرجال، براءة الأطفال، حماس الشباب ووقار الشيوخ... إنها ليست إلا رعداً، ستمطر معه سماوات الغد؛ يمناً جديد.
لا أدري لم أبدو متحمساً لفكرة التعافي الفوري من نبرة القلق المتصاعدة من شفاة البعض، ثم إنني وفي لحظة ثورية أبدو فيها مندفعاً بحكمة، أؤمن بأن ثوب وجودِهم المهترىء داخل ساحات التغيير أو خارجها، يشكل جزءًا لا يتجزأ من هذه الطاقة التي أواصل بها مع شباب الثورة، رحلة الطموح. وإذ يدمن "أصحاب سكة الندامة" كما اختزلهم في مقال وليد البكس، أن يطلوا برؤوسهم من نوافذ الشؤم، فإنهم ومهما حاولوا أن ينقلوا إلينا بقصد أو بدونه، عدوى اليأس هذه، لا يمكنهم قط، أن يعيقوا هذا التدفق الطبيعي لسيل الأمل المحاذي لكل مراحل الثورة، والمتاخمة قباب ابتسامته، لكل خطواتنا النضالية الثابتة رغم الهزات والأزمات.
ما قبل الثورة المباركة، كان الحديث بقلق وتوجس، عن مستقبل اليمن، مباحاً، غير أنه بات من غير المقبول اليوم أن يشغل جزءًا كبيراً من يومياتنا الثورية والعادية أيضاً. وببساطة كافية، كانت الدولة قد بدأت موتها المتقطع منذ مطلع الألفية الجديدة ولاسيما في محطات حروبها الدموية ضد أبنائها في الحراك الجنوبي وضد الحوثيين، غير أن نتائج انتخابات العام 2006 كان أشبه بإعلان أولي لنهاية النظام؛ حيث ظل ينازع مصرعه الأخير بيده، حتى توصل من خلال البركاني إلى "قلع العداد"؛ وهنا اقتُلِع نهائياً بغبائه وبصحوة التغيير، وهماً اسمه نظام.
أعرف أنني وغيري كثير لم يتسلموا رواتبهم من مؤسسات عملهم حتى اللحظة، وأن احتياجات رمضان عند عدد من الأسر غير مكتملة إذا لم تتوفر جميعها قط، وأدرك أن الأزمات المفتعلة أجبرت الكثيرين ممن لم يقرؤوها جيداً، على التشكيك في طموحات الشباب وربما أطلقت رصاصات التهكم على ثورتهم وزحفها البطيء نحو الحسم، لقد بدأ التحامل على قوى الثورة المتوافدة من كل صوب وتوجه وبدأ التشكيك في نواياها، وباشر المرجفون حديثهم عن الخلافات الطبيعية داخل الساحات؛ الحضور القوي لحزب الإصلاح؛ تطلعات الجهاديين؛ رؤى الليبراليين؛ تأريخ علي محسن ونوايا حميد... يالله! كم أنتم بارعون في نفخ بالونة التشاؤم الذي لا يحجب رؤيتنا للمستقبل، وكم بأيديكم معاول هدم لا تثمر في رؤوسكم أنتم، ألا تعتقدون أنه حري بكم أن تضعوا حداً فاصلاً بين العقل والجنون، تحليلاً منطقياً للمستقبل والماضي، مقارنة متزنة بين يمن ما قبل 11 فبراير ويمن ما بعد الثورة الشبابية السلمية.
إن ما يحدث في تعز وأرحب والحصبة وأبين وما نعانيه في ربوع الوطن من أزمات، ليست إلا مخاضاَ طبيعياً لولادة وطن سيشع وهجه قريباً في وجوه الجميع، وسيعود له خيره مفتدياً بأرواح وأجساد أبناءه الذين قضوا وخلدوا في ذاكرته أو الذين لا يزالون يدفعون بمختلف مستوياتهم وبكل سرور، فاتورة التغيير. ها نحن في صميم هذا القرف، نتخاصم مع الأحلام فتسحقنا، ونعارك الطموح فينتصر علينا، ونركض مجبرين، باتجاه خيباتنا فنجد الابتسامات متناثرة رغماً عنهم، على جنبات كل الطرق، وما إن تخنقنا الأزمات المتوالدة في بلدي حتى نتنفس حياة أخرى مغايرة تتكيف بحب، مع كل الآلام. إننا ببساطة، شعب جبار ويجب أن نثق بذلك ونفاخر به. لا خوف على ثورتنا إذاً، ومن تسلل اليأس إلى نفسه عليه أن يغذي روحه بزيارة الساحة، أو أن يصلي الجمعة في الستين. وليس هناك أي شك في أن كثيرين غيري ممن آمنوا بالتغيير، يشاطرون أصدقائي توفيق عبد الوهاب وأحمد الزرقة نظرتهم التفاؤلية الثاقبة الثابتة للقادم رغم الضبابية. ولطالما جرجرتنا هموم الثورة في نقاشات ودية تجمعنا معاً، إلى منعطفات المباركة لهذا الوطن بالولادة الجديدة رغم الوخزات والآلام التي تعترض طريق التغيير وتتواجد كحتمية، في كل نقاش؛ لكن لا ننفك أن نؤمن جميعنا بفكرة أن الثورات لا تتراجع وأن موكب التغيير لن يعود من منتصف الطريق.